غيّب الموت عن دنيانا علما فذا من أعلام العمل الإسلامي ورائدا من رواد المجال الدعوي والخيري في السودان، قلما تجتمع القلوب من شتى فصائل العمل الإسلامي وعامة الناس على حب رجل مثله، فقد كان عفّ اللسان مثقف الفكر ذا روح مرحة ودعابة حاضرة بالإضافة إلى صلابته في الحق وتمسكه بنهجه السلفي الذي ارتضاه لأكثر من ستين عاما في حياته التي قاربت المائة.
استمعت إلى الشيخ محمد هاشم الهدية رحمه الله كثيرا عبر أحاديثه بالمساجد أو من خلال وسائل الإعلام، لكني على المستوى الصحفي التقيت به مرتين فقط بغرض إجراء حوارات صحفية: الأولى أجريت معه حوارا لشبكة المشكاة الإسلامية أوائل العام 2004م تقريبا، والثانية تشرفت بتسجيل ثلاث حلقات إذاعية لإذاعة طيبة في أغسطس الماضي 2007م أي قبيل حوالي شهر من وفاته رحمه الله تعالى.
كان الشيخ الهدية يمثل مدرسة في العمل الدعوي والخيري تستند إلى السماحة والوسطية والتجرد وحب الخير للجميع حتى وإن كانوا من المخالفين في المنهج والطريقة. أما سماحته ووسطيته فيكتشفهما كل من عاشر الشيخ ولو مدة يسيرة من الزمن، أو كل من سمع عنه بإنصاف دون عصبية وتحيّز، فالانطباع الأول عن جماعة أنصار السنة المحمدية ـ أو ما أطلقه خصومهم عليهم ـ أنهم متشددون متزمتون يلقون على مسامعك كلاما عنيفا في كل شيء، لكن جلسة واحدة أو استماع مرة واحدة للشيخ الهدية تريك زيف هذا الاعتقاد وخطأ هذا الانطباع، فكلامه هين لين وأسلوبه سلس ممتع ووجهه دائم البشر كثير التبسّم.
أما تجرده وحبه الخير للجميع، فقد كان الشيخ الهدية مسموع الكلمة في الخليج ـ خاصة السعودية والكويت ـ وكانت تزكياته وشفاعاته لأهل الخير والمحسنين هناك تجد آذانا صاغية واستجابة سريعة، ولم يكن يمنع تزكيته عن أحد، وكان يبذلها دون النظر إلى طريقة الشخص الطالب للتزكية أو جماعته، وقد استفاد كثير من الصوفية من هذه التزكيات في بناء المساجد وأعمال الخير المختلفة، وقد كان هذا مثار انتقاد كثير ممن لم تعجبهم طريقة الشيخ في إعانة الصوفية، وقد كان رحمه الله بعيد النظر واسع الأفق يرجو الخير للجميع ويأمل في هداية الكل. وهكذا كانت له صولاته وجولاته التي ساهمت في تأسيس رابطة العالم الإسلامي، ولعل الكثيرين لا يعلمون أن الشيخ الهدية قد أسس المركز الإسلامي الإفريقي بالخرطوم بالتعاون مع الشيخ عبد الرؤوف التكينة وآخرين في أواخر أيام الديمقراطية الثانية في أواخر ستينيات القرن الماضي، وهو نفسه الذي تطور لاحقا إلى جامعة إفريقيا العالمية.
نأمل أن تستمر مدرسة الشيخ الهدية بصفاتها العالية وخصائصها الفريدة عبر تلاميذه ومريديه في جماعة أنصار السنة المحمدية وغيرهم، فما أحوج الساحة السودانية إلى مثل هذه الصفات الراقية والأخلاق العالية في العمل العام، كما نأمل أن تبذل جماعة أنصار السنة المحمدية جهودا مقدرة في جمع تراث الشيخ وكتابة سيرته ممن عاصروه وتتلمذوا عليه حتى تستفيد الأجيال القادمة من هذه السيرة العطرة وتنهل من هذا النبع الثر الذي خلفه وراءه، ونسأل الله تعالى أن يرحم الشيخ ويغفر له وألا يفتنا بعده ولا يحرمنا أجره.
الصحفى حسن عبد المجيد