الأول : أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تعبير عن الفرح والسرور بالمصطفى صلّىالله عليه وسلّم ، وقد انتفع به الكافر .
وسيأتي
في الدليل التاسع مزيد بيان لهذه المسألة ، لأن أصل البرهان واحد وإن
اختلفت كيفية الاستدلال وقد جرينا على هذا المنهج في هذا البحث وعليه فلا
تكرار
فقد جاء في البخاري أنه يخفف عن أبي لهب كل يوم الاثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشّرته بولادة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم .
ويقول في ذلك الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي
إذا كان هذا كافـراً جاء ذمـه بتبّت يداه في الجحيم مخلّدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائـمـا يُخفّف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره بأحمد مسرورا ومات موحّدا
وهذه
القصة رواها البخاري في الصحيح في كتاب النكاح مرسلة ونقلها الحافظ ابن
حجر في الفتح ورواها الإمام عبدالرزاق الصنعاني في المصنف والحافظ البيهقي
في الدلائل وابن كثير في السيرة النبوية من البداية ومحمد ابن عمر بحرق في
حدائق الأنوار والحافظ البغوي في شرح السنة وابن هشام والسهيلي في الروض
الأُنُف والعامري في بهجة المحافل ، وهي وإنْ كانت مرسلة إلا أنها مقبولة
لأجل نقل البخاري لها واعتماد العلماء من الحفاظ لذلك ولكونها في المناقب
والخصائص لا في الحلال والحرام ، وطلاب العلم يعرفون الفرق في الاستدلال
بالحديث بين المناقب والأحكام ، وأما انتفاع الكفار بأعمالهم ففيه كلام
بين العلماء ليس هذا محل بسطه ، والأصل فيه ما جاء في الصحيح من التخفيف
عن أبي طالب بطلب من الرسول صلّىالله عليه وسلّم .
الثاني : أنه
صلّى الله عليه وسلّم كان يعظّم يوم مولده ، ويشكر الله تعالى فيه على
نعمته الكبرى عليه ، وتفضّله عليه بالجود لهذا الوجود ، إذ سعد به كل
موجود ، وكان يعبّر عن ذلك التعظيم بالصيام كما جاء في الحديث عن أبي
قتادة : أن رسول الله صلّىالله عليه وسلّم سُئل عن صيام يوم الاثنين ؟
فقال (فيه وُلدتُ وفيه أُنزل عليَّ ) رواه الإمام مسلم في الصحيح في كتاب
الصيام .
وهذا في معنى الاحتفال به ، إلاّ أن الصورة مختلفة ولكن
المعنى موجود سواء كان ذلك بصيام أو إطعام طعام أو اجتماع على ذكر أو صلاة
على النبي صلّىالله عليه وسلّم أو سماع شمائله الشريفة .
الثالث :
أن الفرح به صلّىالله عليه وسلّم مطلوب بأمر القرآن من قوله تعالى ( قل
بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة ،
والنبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم الرحمة ، قال الله تعالى ( وما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين ) .
الرابع : أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان
يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت ، فإذا جاء
الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكّرها وتعظيم يومها لأجلها ولأنه ظرف
لها .
وقد أصّل صلّى الله عليه وسلّم هذه القاعدة بنفسه كما صرح في
الحديث الصحيح أنه صلّىالله عليه وسلّم : لما وصل المدينة ورأى اليهود
يصومون يوم عاشوراء سأل عن ذلك فقيل له : إنهم يصومون لأن الله نجّى نبيهم
وأغرق عدوهم فهم يصومونه شكرا لله على هذه النعمة ، فقال صلّى الله عليه
وسلّم : نحن أولى بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه .
الخامس : أن
المولد الشريف يبعث على الصلاة والسلام المطلوبين بقوله تعالى : ( إن الله
وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما
) .
وما كان يبعث على المطلوب شرعاً فهو مطلوب شرعاً ، فكم للصلاة
عليه من فوائد نبوية ، وإمدادات محمدية ، يسجد القلم في محراب البيان
عاجزاً عن تعداد آثارها ومظاهر أنوارها .
السادس : أن المولد
الشريف يشتمل على ذكر مولده الشريف ومعجزاته وسيرته والتعريف به ، أولسنا
مأمورين بمعرفته ومطالبين بالاقتداء به والتأسّي بأعماله والإيمان
بمعجزاته والتصديق بآياته ؟
وكتب المولد تؤدي هذا المعنى تماما .
السابع
: التعرّض لمكافأته بأداء بعض ما يجب له علينا ببيان أوصافه الكاملة
وأخلاقه الفاضلة ، وقد كان الشعراء يفدون إليه صلّى الله عليه وسلّم
بالقصائد ويرضى عملهم ، ويجزيهم على ذلك بالطيبات والصلات ، فإذا كان يرضى
عمن مدحه فكيف لا يرضى عمن جمع شمائله الشريفة ، ففي ذلك التقرب له عليه
السلام باستجلاب محبته ورضاه .
الثامن : أن معرفة شمائله ومعجزاته
وإرهاصاته تستدعي كمال الإيمان به عليه الصلاة والسلام ، وزيادة المحبة ،
إذ الإنسان مطبوع على حب الجميل ، ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل من أخلاقه
وشمائله صلّى الله عليه وسلّم ، وزيادة المحبة وكمال الإيمان مطلوبان
شرعاً ، فما كان يستدعيهما فهو مطلوب كذلك .
التاسع : أن تعظيمه
صلّىالله عليه وسلّم مشروع ، والفرح بيوم ميلاده الشريف بإظهار السرور
وصنع الولائم والاجتماع للذكر وإكرام الفقراء من أظهر مظاهر التعظيم
والابتهاج والفرح والشكر لله بما هدانا لدينه القويم وما منّ به علينا من
بعثه عليه أفضل الصلاة والتسليم .
العاشر : يؤخذ من قوله صلّىالله
عليه وسلّم في فضل يوم الجمعة وعدِّ مزاياه : ( وفيه خُلق آدم ) تشريف
الزمان الذي ثبت أنه ميلاد لأي نبيٍّ كان من الأنبياء عليهم السلام ، فكيف
باليوم الذي وُلد فيه أفضل النبيين وأشرف المرسلين .
ولا يختص هذا
التعظيم بذلك اليوم بعينه بل يكون له خصوصاً ، ولنوعه عموماً مهما تكرر
كما هو الحال في يوم الجمعة شُكراً للنعمة وإظهاراً لمزية النبوة وإحياءً
للحوادث التاريخية الخطيرة ذات الإصلاح المهم في تاريخ الإنسانية وجبهة
الدهر وصحيفة الخلود ، كما يؤخذ تعظيم المكان الذي وُلد فيه نبيٌّ من أمر
جبريل عليه السلام النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بصلاة ركعتين ببيت لحم ،
ثم قال له : ( أتدري أين صلّيت ؟ قال : لا ، قال : صلّيتَ ببيت لحم حيث
وُلد عيسى ) كما جاء ذلك في حديث شداد بن أوس الذي رواه البزّار وأبو يعلى
والطبراني . قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد : ورجاله رجال الصحيح ،
وقد نقل هذه الرواية الحافظ ابن حجر في الفتح وسكت عنها .
الحادي
عشر : أن المولد أمرٌ استحسنه العلماء والمسلمون في جميع البلاد ، وجرى به
العمل في كل صقع فهو مطلوب شرعاً للقاعدة المأخوذة من حديث ابن مسعود رضي
الله عنه الموقوف ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رآه
المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح ) أخرجه أحمد .
الثاني عشر : أن
المولد اشتمل على اجتماع وذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي فهو سنة ،
وهذه أمور مطلوبة شرعاً وممدوحة وجاءت الآثار الصحيحة بها وبالحثّ عليها .
الثالث
عشر : أن الله تعالى قال : ( وكلاًّ نقصُّ عليك من أنباء الرسل ما نثبّت
به فؤادك ) فهذا يظهر منه أن الحكمة في قصّ أنباء الرسل عليهم السلام
تثبيت فؤاده الشريف بذلك ولا شك أننا اليوم نحتاج إلى تثبيت أفئدتنا
بأنبائه وأخباره أشد من احتياجه هو صلّىالله عليه وسلّم .
الرابع
عشر : ليس كل ما لم يفعله السلف ولم يكن في الصدر الأول فهو بدعة منكرة
سيئة يحرم فعلها ويجب الإنكار عليها بل يجب أن يعرض ما أحدث على أدلة
الشرع فما اشتمل على مصلحة فهو واجب ، أو على محرّم فهو محرّم ، أو على
مكروه فهو مكروه ، أو على مباح فهو مباح ، أو على مندوب فهو مندوب ،
وللوسائل حكم المقاصد ، ثم قسّم العلماء البدعة إلى خمسة أقسام :
واجبة : كالرد على أهل الزيغ وتعلّم النحو .
ومندوبة : كإحداث الربط والمدارس ، والأذان على المنائر وصنع إحسان لم يعهد في الصدر الأول .
ومكروه : كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف .
ومباحة : كاستعمال المنخل ، والتوسع في المأكل والمشرب .
ومحرمة : وهي ما أحدث لمخالفة السنة ولم تشمله أدلة الشرع العامة ولم يحتو على مصلحة شرعية .
الخامس
عشر : فليست كل بدعة محرّمة ، ولو كان كذلك لحرُم جمع أبي بكر وعمر وزيد
رضي الله عنهم القرآن وكتبه في المصاحف خوفاً على ضياعه بموت الصحابة
القراء رضي الله عنهم ، ولحرم جمع عمر رضي الله عنه الناس على إمام واحد
في صلاة القيام مع قوله ( نعمت البدعة هذه ) وحرم التصنيف في جميع العلوم
النافعة ولوجب علينا حرب الكفار بالسهام والأقواس مع حربهم لنا بالرصاص
والمدافع والدبابات والطيارات والغواصات والأساطيل ، وحرم الأذان على
المنائر واتخاذ الربط والمدارس والمستشفيات والإسعاف ودار اليتامى والسجون
، فمن ثَم قيّد العلماء رضي الله عنهم حديث (كل بدعة ضلالة ) بالبدعة
السيئة ، ويصرّح بهذا القيد ما وقع من أكابر الصحابة والتابعين من
المحدثات التي لم تكن في زمنه صلّىالله عليه وسلّم ، ونحن اليوم قد أحدثنا
مسائل كثيرة لم يفعلها السلف وذلك كجمع الناس على إمام واحد في آخر الليل
لأداء صلاة التهجد بعد صلاة التراويح ، وكختم المصحف فيها وكقراءة دعاء
ختم القرآن وكخطبة الإمام ليلة سبع وعشرين في صلاةالتهجد وكنداء المنادي
بقوله ( صلاة القيام أثابكم الله ) فكل هذا لم يفعله النبي صلّى الله عليه
وسلّم ولا أحد من السلف فهل يكون فعلنا له بدعة ؟
السادس عشر :
فالاحتفال بالمولد وإن لم يكن في عهده صلّى الله عليه وسلّم فهو بدعة ،
ولكنها حسنة لاندراجها تحت الأدلة الشرعية ، والقواعد الكلية ، فهي بدعة
باعتبار هيئتها الاجتماعية لا باعتبار أفرادها لوجود أفرادها في العهد
النبوي عُلم ذلك في الدليل الثاني عشر .
السابع عشر : وكل ما لم
يكن في الصدر الأول بهيئته الاجتماعية لكن أفراده موجودة يكون مطلوباً
شرعاً ، لأن ما تركّب من المشروع فهو مشروع كما لا يخفى .
الثامن
عشر : قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو
إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضالة ، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً
من ذلك فهو المحمود .ا.هـ .
وجرى الإمام العز بن عبد السلام والنووي كذلك وابن الأثير على تقسيم البدعة إلى ما أشرنا إليه سابقاً .
التاسع عشر : فكل خير تشمله الأدلة الشرعية ولم يقصد بإحداثه مخالفة الشريعة ولم يشتمل على منكر فهو من الدين .
وقول
المتعصب إن هذا لم يفعله السلف ليس هو دليلاً له بل هو عدم دليل كما لا
يخفى على مَن مارس علم الأصول ، فقد سمى الشارع بدعة الهدى سنة ووعد
فاعلها أجراً فقال عليه الصلاة والسلام : ( مَنْ سنّ في الإسلام سنة حسنة
فعمل بها بعده كُتب له مثل أجر مَن عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ) .
العشرون
: أن الاحتفال بالمولد النبوي إحياء لذكرى المصطفى صلّى الله عليه وسلّم
وذلك مشروع عندنا في الإسلام ، فأنت ترى أن أكثر أعمال الحج إنما هي إحياء
لذكريات مشهودة ومواقف محمودة فالسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار
والذبح بمنى كلها حوادث ماضية سابقة ، يحيي المسلمون ذكراها بتجديد
صُوَرِها في الواقع والدليل على ذلك قوله تعالى : ( وأذِّن في الناس بالحج
) وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ( وأرنا مناسكنا )
.
الحادي والعشرون : كل ما ذكرناه سابقا من الوجوه في مشروعية
المولد إنما هو في المولد الذي خلا من المنكرات المذمومة التي يجب الإنكار
عليها ، أما إذا اشتمل المولد على شئ مما يجب الإنكار عليه كاختلاط الرجال
بالنساء وارتكاب المحرمات وكثرة الإسراف مما لا يرضى به صاحب المولد
صلّىالله عليه وسلّم فهذا لاشك في تحريمه ومنعه لما اشتمل عليه من
المحرمات لكن تحريمه حينئذ يكون عارضيا لا ذاتيا كما لايخفى على مَن تأمّل
ذلك
رأي الشيخ ابن تيمية في المولد
يقول : قد يُثاب بعض
الناس على فعل المولد ، وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في
ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلّىالله عليه وسلّم وتعظيما له ،
والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع .
ثم قال :
واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع ،
وفيه أيضاً شر من بدعة وغيرها فيكون ذلك العمل شراً بالنسبة إلى الإعراض
عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين .
وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة ، فعليك هنا بأدبين :
أحدهما : أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطناً وظاهراً في خاصتك وخاصة من يطيعك واعرف المعروف وأنكر المنكر .